مالطا/غزة- نبيل سنونو
موج البحر كان يعلو، كلما تنفس طفل رضيع يغرق فيه، نفسًا واحدًا ليبعد عنه الموت، كان يعلو أكثر وأكثر؛ لا فرصة لـ"الحياة"، هذا القارب باختصار يغرق بمن فيه (400 شخص جلّهم أطفال ونساء) سيموتون بعد قليل، البحر لا يسمع نداءهم، وخفر السواحل الليبي قدَرُهم، لا ليعتني بأمرهم، لكن ليطلق النار عليهم، أما طائرة "الصليب الأحمر" فتراقب كيف سيموتون عن كثب!قبطان القارب بذل محاولات مستميتة لإقناع الأمن الليبي بالعودة عن قراره بنقلهم إلى دار الآخرة: "معنا أطفال.. معنا نساء، لا تطلق النار.. لا.."، تعالت أصوات اللاجئين الفارين من جحيم سوريا: "نحن لاجئون ما معنا شي، نحنا مو مهربين"، وكانت آخر المحاولات لإقناعه برفع النساء أطفالهن عاليًّا، لعله يذكر أو يخشى، لكنه عبس وفعلها.
الفرار من جحيم سوريا، إلى أي مكان آخر على وجه الأرض، لم يكن يعني بالضرورة الانتقال إلى رغد العيش؛ فاللجوء لجوء، كان أحمد موسى يدرك هذا، لكن طفله ذا العام الواحد، وأمه (45 سنة)، وشقيقته تسعة أعوام، وأبوه (57 سنة)، وزوجته (18 سنة)، ضاقت بهم السبل في مخيم اليرموك، الذي صار مخيمًا للجوء والرعب في آن واحد.
سمحت له السلطات السورية بمغادرة البلاد عبر مطار دمشق الدولي إلى القاهرة، هربًا من القصف وسوء الأحوال الإنسانية في المخيم، فليس بعد ترك المنازل والنوم في المدارس والمساجد، وقلة الطعام والشراب، والملابس، من حياة!
ومن لحظة وصوله إلى مطار القاهرة، وهو المكان الذي اختاره - في حين اختار آلاف آخرون الهرب إلى لبنان، ودول أخرى دون الأردن التي لا تسمح للاجئين الفلسطينيين في سوريا بدخول أراضيها- قضى موسى وعائلته ذات الستة أفراد، تسعة أشهر في مصر.
أين كانت محطة اللجوء الجديدة؟ "لقد كانت ليبيا، التي قضينا فيها ستة أشهر، عشنا فيها المعاملة السيئة من الليبيين، فقررنا الرحيل إلى إيطاليا، ولو أننا وجدنا معاملة حسنة من الليبيين، لما اتخذنا قرارًا بالهجرة إلى دولة أخرى"، وفق حديثه.
رصاصٌ ونيرانٌ وحِبال!
في تلك الفترة كبر طفله الرضيع ليبلغ من عمره سنةً إلا قليلاً، فتعرف ومجموعة من اللاجئين الفلسطينيين هناك على رجل، طلب من كل منهم 1200 دولار لينقلهم بحرًا من ليبيا إلى إيطاليا، وهي الرحلة التي تحتاج إلى 20 ساعة تقريبًا.
كان عدد المهاجرين يقترب من 400، في القارب، ولما كان يبحرُ الأخير في المياه الإقليمية الليبية ظهر زورق ليبي، طلب منه الوقوف، وتحدث القبطان مع الأمن الليبي، أخبروه بأنهم لاجئون، وليسوا عصابات أو مهربين، لكنه لم يقتنع.
لم يقتنع أيضًا اللاجئون بالوقوف أو العودة، فإلى أين سيعودون إلى جحيم سوريا أم ليبيا؟، كان الموت عندهم جميعًا أرحم من العودة إلى الجحيم ثانيةً، فطلبوا من القبطان إكمال طريقه إلى الوجهة التي يريدون، وهي سواحل إيطاليا.
رصاص ونيران أطلقها الأمن الليبي على القارب، في 13 من الشهر الجاري، وحبالٌ تلفه لتعيق حركته عن سبق إصرار وترصد، جعلت النساء يرفعن أطفالهن عاليًّا، لا رحمة تحركت في قلب خفر سواحل ليبيا؛ "مشان الله.. مشان الله.. معنا أطفال"، قالها اللاجئون، لكن استمرت المطاردة أربع ساعات.
اختل توزان المركب، وما عاد القبطان مسيطرًا على القارب، وموج البحر صار يعلو ويعلو، لم يحن البشر، فلم يحن الموج عليهم، اتصل القبطان بجهاز اتصال كان يملكه بمنظمة الصليب الأحمر: "نحن نغرق"، ردوا عليه: "أنتم في المياه الإقليمية الإيطالية"!
هل يعني ذلك أن "الصليب الأحمر" سينقذ القارب من الغرق؟ "كلا، بل راوغونا كثيرًا، قالوا أنتم في المياه الإقليمية الإيطالية، ثم المالطية، ثم الدولية، وكان معنا طبيب جرّاح، تحدث إلى المنظمة، أخبرهم بأن الوضع كارثي، فقالوا إنهم سيأتون خلال 40 دقيقة"؛ ولم يأتوا.
يتابع موسى كأنما يرى مشهد الغرق أمام عينيه: "استنينا وما صار شي، بعدين أجت طيارة كشاف تابعة للصليب الأحمر، تدور فوقنا، قعدنا نأشر، لكن ما أنقذتنا، ولما رجعت ما لقت السفينة، كان اللي ميت ميت، قامت زتت (ألقت) زورق مطاطي لا يتسع إلا لـ40 شخصاً فقط"!
الموج كان قويًّا على غير عادة؛ مَن كان ماهرًا في السباحة أنقذ نفسه، ومَن لم تسعفه مهاراته على السباحة، لم يفعل، وفارق حياة اللجوء، إلى الآخرة، ومن بين مَن نجا بنفسه موسى، الذي تمكن أيضًا من إنقاذ شابّ آخر، يمكث الآن جنوب إيطاليا ومجموعة من اللاجئين.
أما طفله الرضيع، وزوجته، ووالدته، فكانوا من الغرقى، ووالده لا خبر عنه، ولا يقين، كان ذلك خلال 4 دقائق غرق فيها القارب؛ لأنه كان معبّئًا أساسًا بالماء ولاسيما في منطقة المحرك، بحث موسى هنا.. وهناك، فلم يجد أحدًا منهم على الإطلاق.
"ما قدرت أنقذه"!
موسى يعيش الآن وما يزيد عن مائة آخرين من الناجين في مالطا، ومجموعة منهم جنوب إيطاليا، السلطات المالطية والإيطالية حاولتا إنقاذ من في مقدورهما إنقاذه، وفي الطريق إلى وجهة ما بعد الغرق، قالت السلطات: "سنذهب بكم إلى إيطاليا"، لكنها فرقتهم بين مالطا وجنوب إيطاليا.
كلٌ من السلطات الإيطالية والمالطية أيضًا عمدتا إلى تصوير الجثث، وتوزيعها عليهم، ليتعرفوا على أصحابها، شاهد موسى بأم عينيه أباه، لكن أباه لم يره، لأن السلطات المالطية لم توصل صورته إلى أبيه المصاب بجلطة دماغية، فعلم كلاهما بعد أسبوع تقريبًا، أن كلاً من الآخر لا يزال على قيد الحياة!
هناك في مالطا، يعيش اللاجئون الآن في مخيم أوضاعه "مو زيادة" أي صعبة، رغم أن السوريين في مالطا أعانوا الناجين بشيء من التبرعات المادية والعينية، كما فعلت السلطات المالطية، لكن أحدهم كحال موسى، لديه ثلاثة أطفال لاجئين جنوب إيطاليا، علم أنهم أحياء، و غير مسموح له الاجتماع بهم، والعائق قوانين الهجرة الأوروبية.
السفارة الفلسطينية لا تساعدهم على الإطلاق، وفق قوله، السفير الفلسطيني كلّف نفسه بزيارتهم مرة واحدة، قطع لهم الوعود بالمساعدة، والدعم، وكانت وعوده سرابًا.
أما والدته وزوجته وأخته، فتولت السلطات الإيطالية دفنهم بعد أن قضوا 12 يومًا في ثلاجة الموتى، على الرغم من أنه كان بإمكانه تولي المهمة، لكن هي ذاتها قوانين الهجرة الأوروبية، وعدم قدرته على الانتقال من مالطا إلى جنوب إيطاليا؛ "أفلا يحق لي أن أدفن أهلي"؟
الإجابة التي أتبع سؤاله بها- وهو من قضاء صفد- أن "الشعب الفلسطيني ضايع حقه، وأنا ما بدي شيء هلأ غير إنه حد يجمعني بأبي، ما بقالي غيره، كانت أسرتي مكونة من ستة أشخاص، وصرنا شخصين، ولو بعرف بده يصير فينا هيك ما طلعت من سوريا"!
ما يودّ موسى إخبارنا به أيضًا: "أن طفله الرضيع فارق الحياة غرقًا، في ذات اليوم الذي وُلد فيه قبل عام" (..) "مات بين إيديا ما حسيت شيبهالدنيا ممكن يصبرني، انحرق قلبي من جوة (من الداخل)، ما قدرت أنقذه.."!